التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عسر هضم

مصر المنسحقة
"مصر المنسحقة"
مقتطفات من كتابي "استعمار مصر" و "كل رجال الباشا"
    نفذت رغبة مؤجلة بشراء كتاب "خالد فهمي" كل رجال الباشا الكتاب تاريخي فلسفي، دراسة عن تاريخ السلطة في مصر وأدواتها تحديدًا الجيش، وهنا تحديدًا لا أعرف هل الجيش أداة من أدوات السلطة (الدولة) أم العكس! ألحقته بكتاب "تيموثي ميتشل" استعمار مصر، والكتابان يطبقان فلسفة فوكو عن السلطة، من يقرأ الفصل الأخير في (استعمار مصر) لا حاجة له بفصول الكتاب! منهج "فوكو" في نظره للسلطة؛ قمعية استغلالية، لها حيزان (فيزيقي/ ميتافيزيقي) ولك أن تصوغ على شاكلتها مصطلحات مثل (المعنى- الحقيقة) أو (صورة الذات عن الأنا- صورة الواقع عنها)… هي الفلسفة ولا شيء غيرها!

بينما حرص "خالد فهمي" على عقل القارئ وانتباهه وإعلان انحيازه للفلاح، حرص "ميتشيل" على صدمة القارئ وتشتيته في متاهات الفلسفة فلا تعلم أين قناعات الكاتب ولا صواب أو خطأ، كتاب صدامي جدير بعصر "فلسفة ما بعد الحداثة". في الفلسفة القديمة تشعر بفخر الفلاسفة بحلولهم لمشاكل العالم عن طريق بنيان نظري لما فهموه، أما فلسفة ما بعد الحداثة تفتخر بالتفكيكية، يفتخرون بأنهم لا يفهمون شيئًا ويسعدون بالعبثية (وأنهم يصطدمون بالحائط مع كل تفسير)! متاهة الفلسفة تلك صدمت الناشر، فجعلته يكتب مقدمة متهورة ومندفعة يدافع فيها عن الإسلام، مقدمًا لحلول لم يجدها سهلة في ثنايا الكتاب، فأراد أن يريح القارئ بها، هكذا اعتقد الناشر، وهكذا أنا أعتقد!

الكتابان يناقشان "مصر الحديثة"، أنت وأنا درسنا التاريخ في المدرسة وقدم لنا "محمد علي" كمؤسس لحداثية هذا البلد، وبكينا طويلًا عندما سقط الأسد وفرضت عليه اتفاقية "كوتاهية 1833" و"لندن 1840"، هكذا سُرد لنا التاريخ على يد القوميين (السلطة)… لاحقًا مع توسع القراءة تكتشف سذاجتك، وليؤكدها "فهمي" في دلائل بسيطة:
1-   محمد علي نشد تأسيس دولة مصرية ذات طابع قومي، وهو الألباني المولود في اليونان الخاضع لسلطة السلطان العثماني المتدرج في جيشه المتحدث بالتركية ولم يعرف غيرها، حتى فضوله لم يستحثه على معرفة لغة أهل الأرض التي يحكمها، والأنكى من ذلك لغة نظامه "التركية"…
2-   وبعد أن سلك المصريين سلك الجندية جبرًا وأثبتوا شجاعة فائقة وحسن تصرف نادر الوجود بشهادة ابنه "إبراهيم باشا"، لم يكلف خاطره أن يرقي أحدهم حتى يصل إلى القيادة العليا في الجيش ولو حتى من باب إعطاء الأمل الكاذب والوعد المؤجل لهؤلاء المخدوعين الخانعين…
3-   في أوج حرب "عزيز مصر" مع السلطان التركي لم يفكر مطلقًا في المعاداة العلنية لولي نعمته، بل كبح رغبة ابنه "إبراهيم" المبكرة في الاستقلال عن الباب العالي…
4-   لم يذكر "محمد علي" مطلقًا في حديثه وتفاخره بنظامه الجديد، أن له رغبة في إنشاء قومية لمجوعة الفلاحين المتوحشين الذين يحكمهم. الأقرب أن "محمد علي" في بدايته كان ثوريًا إصلاحيًا يريد إثبات مهارته للباب العالي في تحديث نظم السلطنة، لكن تيار العداء والطمع جرف السلطان التركي و"محمد علي"، فجاهر الباشا بأمنيته بتوريث أولاده تلك الولاية الغنية، وتحققت له بضغط حلفائه البريطانيين والفرنسيين _اللذان لم يرغبا في تفكيك الدولة العثمانية وخوفًا من روسيا_ فلم يخرج "محمد علي" خاسرًا…
5-   تغاضي "محمد علي" عن فساد حاشيته التركية والألبانية، وإرهابه وتعذيبه لموظفيه المصريين…
القوميون هنا كما يقول المثل "ملكيون أكثر من الملك"، في أوج رغبتهم الاستقلالية عن السلطان وفساد مملكته نسوا رغبة الباشا الفعلية وفساده أيضًا كوالي تركي أصيل! تغاضوا عن كل هذا من أجل أن "محمد علي" صدفة وقف بجانبه "التطور الطبيعي" لاستقلال أي جماعة يجمعها لغة ودين وعادات وتقاليد واحدة… حتى بعد 23 يوليو ظل الباشا كما هو "مؤسس مصر الحديثة". هنا يأتي التفسير فدراسة "فهمي" عن السلطة/ النظام في مصر تركزت على (مؤسسة الجيش) المستقاة من كتاب "استعمار مصر لـــميتشل" الذي يناقش فيه كيف نشأت مصر الحديثة وتطبيق منهج "فوكو" في أدوات السلطة الانضباطية (الجيش- المدرسة والتربية- الطب والصحة والإحصاء السكاني- الصحف والكتب)، ونعود لــ"فهمي" الذي يقول ببساطة أن الجيش هو الذي بنى الدولة… نعم الدولة من أجل الجيش! يجب ألا ننسى مطلقًا أن "مينا" موحد القطرين صنع الدولة بالجيش، لكن المصري القديم كان لديه الذكاء والوقت والفراغ للتطور، ليفهم جيدًا معنى الدولة.
كتاب "فهمي" محدد ويناقش "أسطورة محمد علي ويهدمها"، لكن "استعمار مصر" يسرد لك سردًا بانوراميًا أدوات السلطة الاستعمارية ومناهجها في الشرق الأوسط متخذًا مصر نموذجًا مثاليًا. يسرد البدايات، كيف بدا الشرق الأوسط وخصوصًا "مصر" في عيون الغرب المستشرق؟ مصر الهمجية _قال محمد علي هذا الوصف أمام كل زائر أجنبي_ التي يعمها الفوضى والضوضاء بما يستعصي معه فهمها، ويضر بمصالح الغرب الاقتصادية "إنجلترا تحديدًا". وكيف أعاد الغرب تشكيل الشرق "مصر" ليفهمه؟ في رأي "ميتشل" أن الاستعمار اكتفي بالتنسيق الظاهري (الصورة الخارجية) أم (الداخلية) فهي مهدمة مبعثرة. فسرد مناهج "السلطة" في السيطرة على الإنسان بتقسيمه إلى جزئين (الجسم/ العقل) اتباعًا لثنائية (الفيزيقي- المادي/ الميتافيزيقي- المعنوي)، فالمدرسة والتربية والصحافة والكتب لإعادة تهذيب المواطن الهمجي وجعله تحت السيطرة كهدف بعيد المدى وأجدى من كل الأسلحة، والإحصاء السكاني والطب والجيش لإعادة ضبط الجسد الكسول ومراقبته عن قرب وتحفيزه على الإنتاج.
وليفهم أكثر رجع إلى الخلف قليلًا شارحًا عملية "التطبيع" الذي مارسها المجتمع قبل الاستعمار، فركز على "سلطة الكلمة" _في الكتَّاب ثم (الأزهر)_ التفسيرية وكيف أنه من المهم "حضور المؤلف" المتمثل في ذهاب المتعلم للكاتب بشخصه ليأخذ عنه أو العنعنة، كما قارب المؤلف بين بنية اللغة العربية وبنية السلطة _على ما فهمت_ فالعربية كلماتها وحروفها متفاعلة (تفهم من سياق العبارة) ليست مستقلة معنويًا كالكلمات الإنجليزية، وعلى العكس من هذا تشكلت مصر الحديثة.
أما الجزء المادي من منظور النظم الحديثة متخلفًا فوضويًا، فالجيش عصابات يعتمدون على الشجاعة الفردية لا التنظيم والمناورة. بالرجوع إلى "فهمي تجده شارحًا كيف نشأ الجيش، وسيطر على الفلاحين الهمج الكسالى. استخدمت الدولة في ذلك الحين كل أساليب الترغيب والترهيب، لكن الترغيب لم يجد عينًا منتبهة، فعين المصري اعتادت على الطين والزرع وكان أخر عهده بالتنظيم الحربي المتصل القرون الأولى لما قبل الميلاد…
الترهيب إذًا الحل الوحيد للباشا لكي ينفذ طموحاته التوسعية، وبالدلائل التي ساقها "فهمي"، تجد أن الباشا سحق الشعب المصري… نعم كالرحايا التي تطحن الحبوب، لم يبق عندهم ذرة من كرامة لقد امتصها كما تمتص العلقة الدماء. في العهود السابقة كانت ضرائب وجبايات…إلخ لكن تستطيع الهرب والبناء من جديد في مكان أخر، هذه المرة أساليب السلطة اختلفت كلية، فجُمع الفلاحون غصبًا من القرى (شبابًا وشيوخًا) ولم يراع عمر أو عاهة أو مرض!

ثاروا وتجمعوا وقاوموا هذه السلطة الجديدة، وكثيرًا ما فعلوا… لكن هذه المرة السلطة عازمة على السحق وفقط! في مواجهة أول ثورة ضد طموحاته العسكرية قرر الباشا أن يدفع بأول دفعة من المجندين المصريين مع الأتراك والألبان لمواجهة هذا التمرد… بالتأكيد أنت تعلم هذه الحكاية المتكررة لقد واجه المصري أباه وأخاه وذوي رحمه وتم القتل بحمد الله! لم يكتف بهذا بل اتبع أكثر الأساليب التدريبية تدميرًا لكرامة "حمار"، لتصبح النهضة من أجل الجيش والجيش من أجل طموحاته التوسعية… والنتيجة امتهان الكرامة والأخلاق كضحايا حرب!
البعثات للخارج، المصانع في الداخل، الفلاح في أرضه، الجندي في أورطته من أجل الباشا… العمل سخرة على أوسع نطاق شهدته مصر في تاريخها الطويل، لقد كان أهم عمل قام به " محمد علي" هو سحق الكرامة!
دخلت مصر في مرحلة جديدة كلية من الاتجاه نحو الغرب، الصدمة الحضارية لم تأت على مراحل بل جاءت دفعة واحدة، فأصبح الشعور بالتقزم طاغيًا. متخلفون حضاريًا، نعم لا شك في هذا لحظة لكن أن تكون فلاحًا معزولًا لا ينتقل من قريته إلا نادرًا وتتعرض لصدمات حضارية متتالية منذ دخول الفرنسيين، وأنت لا تملك حقيقة إلا ذات واهمة خاضعة معظم الوقت، فلا بد أن تنسحق في النهاية طيلة الوقت!
أما السلطة المعنوية (السلطة على العقل) لم تتركها الدولة أيضًا كما كان في السابق للتدخل غير المباشر الذي واجهه بعض العلماء بعزة من يعرف الخلود.
أصبح التدخل سافرًا معظم البعثات لفرنسا، الدراسة بالتوجيه فكيف لمثل "رفاعة الطهطاوي" ألا يلهج بمحاسن ولي النعم الظاهرية، فينشأ جيل جديد ينبهر "بالمعرِض" بتعبير فوكو وميتشل هذا العالم المصور المثالي كأنه معروض في فاترينة. إلى أن أتى استثناء بعد جهد جهيد يصيح… يتخطفون الصبية من الشوارع ليعلموهم، أي تعليم هذا؟ إنه "محمد عبده" صوت في السديم!
شكل جديد من السلطة تاه معه المصريين ومازلنا، يلخص "ميتشل" هذا الشكل العالمي الجديد في وجود كيان معنوي منفصل بإرادة المؤلف (الذات الأولى- السلطة) والكيان المادي. أي أن الدولة يقينًا موجودة، لكن كيف تحكم يظل المعنى غامضًا منفصلًا على الرغم من حضور المؤلف (فيزيقي- ميتافيزيقي).
أي عسر هضم أصابني؟! أعثر على كتاب وراء كتاب ويلخصوا لي ذلك العالم الممل المتكررة حوادثه، فمشاكلنا هي مشاكلنا منذ قرون عديدة، سبحة انفرط عقدها، وعقدتها كانت الأندلس…


تعليقات

  1. ديما تدويناتك مميزة مش محتاجة اقرء الكتابين هكتفي بتحليلك

    ردحذف

إرسال تعليق

انقدنى ولا تبالى!

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ملاحيظ جمع ملحوظة

الغريب إن كلمة أحا ، تجيبها يمين تجيبها شمال هى أحا! مصر تعنى الحد بيين شيئين ، الآن الحق و الباطل ليس من ضمنهما! الآن يقف المعلمون فى طابور الصباح ، والطلبة فى سباتهم يحلمون ويحتلمون! حامل البضان الملكية ، ومن لايحملهم! أسخف من مذيع أو سياسى! نحن نستهلك كل شئ ، حتى أولادنا نستورد الفياجرا لإنجابهم!

والنبى إيه... بالذمة!

فى ناس قمامير كدة لوحدهم، يبقى الباحث المحترم اللى بره قعد يجرب فى نظريته -فى المتوسط كدة- بتاع عشر سنيين قوم ييجى واحد فذلوك عايز ينقد النظرية.. قوم ينقدها نظرى ولو طبقها لن تتاح له الامكانات ولا الظروف اللى الباحث الأجنبى ده تعب قلبه وضيع عمره فيها...... ياه الناس دى أساطير فعلًا بروح مهماهاتهم الطيبة عايزين يمحوا تعب عشر سنين فى حين إنهم لسه فى زمن paste و copy! بص يا سيدى بقى احنا هنا، اللى باباه سباك بيطلع سبالك... واللى باباه طبيب بيطلع طبيب... واللى باباه دكتور بيطلع دكتور... واللى باباه مستشار بيطلع مستشار.... واللى باباه ناشط سياسى... بيطلع ناشط سياسى..... هى دى بقى ياسيدى الطبقة المتوسطة العليا والطبقى العليا... طب بالله عليك.. بالله عليك عايزنا بعد الجمود ده نتغير بأمارة إيه طيب؟!

ما يجب وما لا يجب فى إطار "الحتميات"

حتمًا يجب على أن أكون حسيس حتمًا أجد نفسى من أسبوعين مضوا، لا أعرف ماذا أكتب.. ولا حتى لم كتبت ما كتبته حتمًا أنا كررت نفسى أكثر من مرة حتمًا أنا بهبل دلوقتى حتمًا على أن أتوقف الآن حتمًا أنك تلعننى أيها القارئ المحتمل على أننى أضعت وقتك الذى لا يقدر بالألماس حتمًا يجب أن أتوقف؛ هل يجب على أن آخذ هدنة كما فعل البعض لأجمع شتات نفسى وأعرف ماذا أكتب؟!